لاتقلق من الهدوء الذي يسبق العاصفة ، وإنما اقلق واحذر واحبس أنفاسك من النحنحة التي تسبق الفلسفة !
قبل يومين تلقيت دعوةً مفاجئة لحضور أمسيةٍ أدبية ، تقام في المركز الثقافي لمدينتي !
شكرت صاحب الدعوة ، وسألت بتهذيب : عفواً ، لكن كيف اهتديتم إليّ ؟ ، فجاءني الرد بأن صديقتكِ " فلانة" قد أثنت عليكِ كثيراً ، وأوصت بكِ خيرا ! ، أنهيت المكاتبة ، وتوجهت رأساً لصديقتي كي أصب عليها جام غضبي ، فوجدتها وقد استعدت لعاصفتي بأجوبة جاهزة مرتبة : ياهند أرجوكِ ، اذهبي ، قدمي نفسك ، اختلطي بهذا العالم ، استفيدي ، اندمجي ، تبادلي الخبرات....
لم أقتنع كثيراً بكلامها ، لكني اشترطت لقبول الذهاب أن ترافقني ، وقد فعلت ! ، وبكل أمانة ، فإن أكثر ماكان يشغل تفكيري حينها ، هو ماذا سأرتدي في هذه المناسبة ، وبعد إطراقٍ ليس بالطويل ، استقر مزاجي على زي بوهيمي ، نظرت في المرآة ، وهمست : نعم ، نعم ، هذه هي أنا !
حبست أنفاسي ، ودخلت القاعة برفقة صديقتي التي اتجهت بنا إلى مجموعة معينة ، ثم قدمتني لسيدة بقولها : هذه هي هند التي حدثتك عنها ، هتفت السيدة : أووه ، هذا جميل ، تعالي ياعزيزتي لأعرفك بأصدقائي ، وبالفعل قادتني نحو طاولة مجاورة ، ثم صاحت : يارفاق ، قبل أن نبدأ أمسيتنا الجميلة ، أحب أن ترحبوا معي بالكاتبة ، والأديبة الرائعة هند عودة !!!!!!!!!!!!!!!!!
نعم ، كما ترون ، سبعون ألف علامة تعجب تراقصت أمام عيني !
الكاتبة والأديبة الرائعة ؟!
لكنك لاتعرفيني ، ولم تقرأي لي حرفاً واحداً ، فكيف حكمتي عليّ ؟ كيف منحتني كل هذي الألقاب ؟ كيف آمنتِ بي لمجرد تزكية من شخصٍ ما دون أن تقرأيني ، وتعجنيني وتخبزيني ؟!
المهم ، بلعتها ، وقلت في نفسي : هوني عليك ياهند ، لاتقفي كثيراً عند كل شئ ، لربما هي من النوع المبالغ في انفعالاتها ! ، وما أن بدأت أستوعب فعلتها الغريبة ، حتى توالت العجائب تباعا ، إذ بدأ أحدهم تقديم نفسه قائلا : مرحبا ، معكِ فلان الفلاني ، شاعر ، وأديب ، ومفكر ، وكاتب ، ومعروف بـ شاعر الوطن ! ثم أعقبته ثانية : أهلاً وسهلا : أنا الأستاذة علانة العلانية ، أستاذة ومدربة عالمية ، وصاحبة أطروحات( ومخدات وشراشف صلاة ) ، ثم تلاهم ثالث : مرحبا ، أنا الدكتور فلنتين ، كاتب وأديب ، وناقد ، ومحلل( ومتخلل ومتنيل ) ، ثم الرابع : هاي ، علتان ابن علات ، فنان تشكيلي ، صانع حرف ، وعامل كلمة ، ومهندس خط ( وفي الليل بتاع فلافل ومشويات ) ، أما الخامسة ، فقد كانت داهية الدواهي : أهلين ، معكِ فلتونة ، عشقي الأبدي الرسم ، مذ كنت طفلة ومازلت ، طفلة مازلت ، ولا تسأليني كيف( 😲😲) !
لا يحتاج الأمر لأخبركم أن مابين الأقواس هو التعريف الذي كنت أكمله في ذهني لكل واحد من هؤلاء المنـتـشين البؤساء ، التفت بعدها لصديقتي هامسة : ذكريني بأن أمسح أرقامكِ من كل مواقع التواصل لدي !
ياإلهي ، هل الأدب بحاجة إلى كل هذه الأوشحة ، والألقاب ، والتفخيمات ، والأوسمة ، والتيجان ؟ الأدب الذي يتحدث عن ريشةٍ تعبث بها الريح ، وورقة يلفظها الخريف ، ومقعدٍ يشكو الحنين ، عن دهشة طفل يلاحق فقاعات الصابون ، واتكاء سيدة تحملق في البعيد ، عن البرد ، وأوجاع الحرب ، وضياع الأوطان ، عن رائحة التراب ، وخجل الندى ، وتغنج الأمواج ! ، هل رقة الأدب تحتمل ثياب المباهاة تلك ، هل صدقه يتقبل كل هذي الأصباغ ؟ ، لقد كنت أظن أن مثل هذا التكلف حصرٌ على فئام من أطباء ، ومهندسين ، وتجار ، وضباط ربما.... أي حرفة في الدنيا ، غير نزف الشعور ، وبث الإحساس !
كيف أثق في صدق أديب يقدم نفسه بهذه الطريقة الطاووسية ، ينتفش إلى الحد الذي يضيع معه صوته ، ودفء حرفه ، لايمكن أن يكون الأدب بكل هذه الجدية والبهرجة ، تلك الجدية التي قال عنها أوسكار وايلد : إنها الملجأ الوحيد الذي يلوذ به ذوو التفكير الضحل ! ، والأدب لايمكن أن تحمله نفوس ضحلة !
بالفعل : لاتقلق من الهدوء الذي يسبق العاصفة ، وإنما اقلق واحذر واحبس أنفاسك من النحنحة التي تسبق الفلسفة !

0 التعليقات